ads

العرنسية



 "العرنسية" مصطلح ابتكرناه لاطلاقه على هذه العجمة التي نبتت في بلادنا والتي تزداد انتشارا في وسط المثقفين والمعلمين وغيرهم – رجالا ونساءا – الا من تلقوا تعليما تقليديا بحثا او ليست لهم صلة بالتطور الحديث، يمزجون العامية بالفرنسية للتعبير عن افكارهم ومشاعرهم وما تتناوله حواسهم منتقلين من هذه الفكرة الى تلك بدون شعور. ولعل اكثر الناس لكنة او تحدثا "بالعرنسية" من اخذوا بقسط يسير من اللغة الفرنسية ولم يسعفهم الحظ باخذ نصيب كثير او قليل من العربية.
 لقد اصاب لغة التعبير في بلادنا ما اصاب جل مظاهر حياتنا الخاصة والعامة خلال العقود الخمسة الماضية. اصبح الانسان المغربي اليوم مزيجا من الشرقي والغربي في ماكله ومشربه ومسكنه وسلوكه. وهذه الازدواجية في الحياة تلاحظ وتكثر في الطبقة المتعلمة الميسورة خاصة في وسط الذين نقلوا تعليما عصريا وارتقوا في سلم الوظائف او ضربوا بسهم صائب في ميادين الاعمال. يتهالكون على اقتناء كل جديد في غلو وارهاق و... فساد ذوق احيانا مع المحافظة على مظاهر تقليدية قديمة. وهم الى الاجترار ومحاكاة الغير اسرع منهم الى الابتكار واستنباط اساليب جديدة.
لو ان اداة التعبير بقيت خالصة من الخلط الذي يضر بجوهر اللغة الاصلية لما كانت مدعاة للملاحظة، بل لكانت من الدوافع لاثراء هذه اللغة بالصور الذهنية والاساليب التعبيرية الحديثة. وحبذا لو التزم المعلمون والمثقفون بالتعبير تارة باللغة العربية او العامية وتارة اخرى باللغة الفرنسية دون ما خلط. ما من شك ان الاخذ بهذا الالتزام يقتضي مجهودا مضنيا في البداية، لكن عائدته محمودة، اذ يمكن اصحابه من امتلاك ناصية التعبير بلغتين. اما سلوك الطريق السهل بخلط كلتيهما فيدل على قصور في التعبير بهما معا ويؤذي اللغة القومية بوجه خاص فلا يستقيم بها معنى في لسان الذين يمزجونها بغيرها ثم يؤثر اسلوب تعبيرهم في اهلهم ودائرتهم.
 كثيرا ما يتعلل هؤلاء بقصور اللغة العربية عن الاداء بالدقة المطلوبة، وغالبا ما يعتذر الفنيون بفقر هذه اللغة في المصطلحات العلمية والتقنية. بينما القصور والفقر راجعان في الحقيقة الى اسلوب التعليم الذي تلقنوه من جهة والى انفسهم من جهة اخرى، اذ لا يبذلون أي مجهود للبحث عن طرق اداء آرائهم بلغتهم القومية وابتكار المصطلحات المؤدية الى ذلك. فاذا كان الاسلوب العربي بقي جامدا خلال عصور الانحطاط لا يخرج عن قوالب عتيقة في التعبير وينحصر شعرا ونثرا في ظلال باهتة من القوافي والسجع المتكلف، فقد طرا عليه تطور مهم في العقود الاخيرة لم يتيسر للمثففين ثقافة غربية من ابناء هذا البلد ان يقفوا عليه. ولاخفاء قصورهم وتقصيرهم ينكرون على اللغة العربية كل قدرة على الاداء.
 ترجع محنة التعبير في الاصل الى اسلوب التعليم المتبع منذ دخول اطفالنا المدارس الى خروجهم منها، اذ لا يقدم لهم رصيد كاف من المفردات العربية يعينهم على اداء الاغراض الحسية ثم يرتقي تدريجيا بارتقاء مداركهم العقلية. وفي نفس الوقت لا يجد هؤلاء الاطفال في بيئتهم العائلية وفي محيطهم الاجتماعي الذي يتحركون فيه معينا على تقويم لسانهم وتحسين تعبيرهم. فلا وجود لمنهاج تعليمي مدروس وغالبا ما يكون المعلمون دون المستوى معرفة وخبرة بالاساليب التربوية الحديثة، بينما تختلف لغة المجتمع اختلافا بينا عن لغة المدرسة. ثم ان الاطفال حين ينتقلون من الطور الابتدائي الى الثانوي فالعالي يصبح التعليم – الا في القليل من المواد – باللغة الفرنسية، فتفتر الصلة بينهم وبين لغتهم الاصلية، ان لم تنقطع. بينما يتمرسون باساليب التعبير مدة سنوات باللغة الفرنسية ويستقر في اذهانهم ان اللغة العربية عاجزة عن اداء ما في ضمائرهم من افكار واحساسات.
 والصورة على العكس بالنسبة للاطفال الاجانب. كل شيء ينمي فيهم قدرة التعبير بلغاتهم القومية : المدرسة بما فيها من معلمين اكفاء ومناهج مدروسة موحدة في مختلف الاطوار، والمجتمع بما يحتويه من جو عائلي وبيئة خارجية. قلا غرابة ان تنمو ملكات التعبير عند ناشئة الغرب فيؤدوا ادق الافكار وارهف المشاعر بلغة سليمة لا لكنة فيها.
 يضاف الى الاسباب المتقدمة التي تفد اداة التعبير عند النشىء المغربي نوع المحيط العائلي الذي يتربى فيه. هناك عدة انواع من الاسر المغربية نقتصر على ذكر ما يتصل منها بالموصوع الذي يهمنا :
 نجد صنفا يتركب من ابوين مغربيين متوسطي التكوين والثقافة باللغتين العربية والفرنسية، وكثيرا ما تغلب هذه اللغة على الاولى. هذا الصنف من الاسر ينشىء ابناءه على التعبير "بالعرنسية"؛ فتراهم يمزجون العامية بالفاظ فرنسية في شكل يزري بالذوق السليم. في هذه العائلات بوجه خاص تعشش العجمة في ابرز مظاهرها. فلا الآباء ولا الابناء بقادرين على اداء جملة صحيحة بالعامية فضلا عن العربية، وقد يستطيعون التعبير عن افكارهم بالفرنسية. وتتكون الاطر الوسطى في الغالب من هذا الصنف.
 ونجد صنفا ثانيا يتكون من آباء مغاربة وامهات فرنسيات، وغالبا ما تكون الامهات جاهلات باللغة العربية ولا يبذلن أي مجهود لتعلمها، فيضطر الزوج الى الحديث بلغة زوجته معها ومع اولاده ليسهل الحوار في العائلة. وقلما يجري الحديث مع الاولاد بلغة الاب. فيكون حظ هؤلاء من لغتهم الاصلية ضئيلا. وقد شاهدنا اطفالا مغاربة لا يحسنون الحديث بالعامية، فاذا تكلموا بها لا تجد فرقا بينهم وبين الفرنسيين الذين يتعلمون العامية في الكبر ليخاطبوا خدم البيت في بعض الشؤون.
 وصنف آخر من الاسر يتركب من آباء مغاربة وزوجات اجنبيات من غير الجنسية الفرنسية. كثيرا ما يكون حظ هؤلاء الزوجات من اللغة الفرنسية قليلا. فيضطر الاب الى التخاطب تارة بلغة زوجه وطورا باللغة الفرنسية ليسهل الحوار بين الابوين والابناء جميعا. فينشا الاولاد على الرطانة بلغة فرنسية غير سليمة وبعض التراكيب المعوجة من لغة الام. ام لغة الاب فتصبح الضحية.
 الى جانب هذه الاصناف من الاسر نجد صنفا آخر متركبا اما من زوجين مغربيين او زوج مغربي وزوجة اجنبية. ولكنهما يحسبان من اسس التقدم نبد اللغة العربية كاداة للتعبير فلا يستعملان الا الفرنسية في حديث البيت. وغالبا ما تقطع هذه العائلات كل صلة تربطها بالمجتمع المغربي في نمط العيش، فينشا الاطفال في جهل تام بمجتمعهم ولغته الا ما كان من لقطات يلتقطونها هنا وهناك من افواه الخدم او زملائهم في المدرسة ان هم ركنوا اليهم. هذا الصنف الذي يشعر بمركب التعالي امام كل ما يمت الى حضارته نجده في الغالب بين الاطر العليا.
 واغرب الاصناف بعض العائلات المثرية التي تتخذ مربيات وخادمات اوربيات. فبدلا من ان تسعى المربيات والخادمات – كما هي طبيعة الكون – الى تعلم العائلات التي يشتغلن عندها، نشاهد العكس حيث ان العائلات هي التي تجهد النفس لتعلم لغتهن. فيكفي ان تدخل خادمة او مربية اجنبية بيت احد السراة لتصبح اللغة العربية في محنة.
 يضاف الى هؤلاء واولئك العدد العديد من العمال الذين تضطرهم ظروف العيش الى الاشتغال في المؤسسات الخاصة التابعة للاوربيين. تتبدل لغة تعبير هؤلاء العمال من عامية صرفة الى "فرنسية" منفرة، فيدخلون في لغة تخاطبهم الفاظا اعجمية بسيطة
كثيرا ما يكون لها مقابل متداول في العامية.. بل يصرفون الافعال الاعجمية حسب قواعد الصرف العامي.
 هذه بعض الصور التي تحمل في ثناياها خطرا داهما على اللغة العربية وبالتالي على احد المقومات الاساسية للشخصية المغربية عاجلا او آجلا. اننا امام امتصاص لمادة جوهرية من مواد حضارتنا واستبدالها بشيء مشوه للغاية ! ولا اقول امام غزو فكري من لدن حضارة اجنبية – فهو موضوع آخر – اذ نحن المسؤولون اولا واخيرا عن المحنة التي تعانيها لغتنا.
ما لم تتضافر المدرسة والبيت والمجتمع، وما لم تكن هناك ارادة قوية على المستوى العام والمستوى الخاص للحفاظ على اداتنا التعبيرية، فلا امل درء هذه الصورة الشوهاء التي تتجلى فيها لغتنا على لسان الناطقين بها، ولا رجاء كذلك في استمرار مقوماتنا الحضارية، وتاكيد طابعنا المتميز عما سواه.
 ان المتعلمين منا مهما قلدوا الغربيين فلن ينسلخوا عن داتيتهم التي فطروا عليها وتفاعلت في تركيبها عدة عناصر عبر الاجيال، ولن يتوقفوا الا في المحاكاة، ولن يكونوا الا صور كاريكاتورية للغربيين فاحسن بهم ان يراجعوا انفسهم ويسعوا لاثبات شخصيتهم عن طريق المحافظة على لغتهم وعلى كل طابع يميزهم عن غيرهم.

ليست هناك تعليقات